أساسيات البحث العلمي ج2 ، مرحلة الشك والتجربة والملاحظة

أساسيات البحث العلمي :

أسس البحث العلمي



لقد قام البحث العلمي عند العرب على أسس ثابتة ، وبني . على دعائم مقررة ، تتمثل في :

1 ـ الإقبال على البحث بروح علمي ، وعقل نزيه محايد ، وفكر واع مستنير مستعد لقبول الحق ، واعتقاده ، متجرد من تأثير الأحكام المسبقة  ...

2 ـ الشك في الموضوع ، حتى تثبت صحته ، وتتأكد سلامته .

3 ـ التجربة التي تبدأ بالملاحظة ، ثم بالاستقراء والموازنة ، والتركيب ، ثم الاستنباط القائم على المقدمات ، للوصول إلى نتيجة ثابتة ومحددة ، تصدق في كل الأحوال .

وهذا المنهج العلمي ، هو الذي ادعى كل من : « بيكون » ، ثم « ديكارت » أنه من ابتكاره ، وفي الواقع أنهما كانا في ذلك تلميذين للباحثين العرب ، وبخاصة النظام ، والجاحظ ، والغزالي ، والخوارزمي ، والبيروني ، وغيرهم من علماء المسلمين (*) .

لقد اعتبر النظام الشك أساسا مهما من أسس البحث العلمي ، كما اعتمد على التجربة ، واستخدم المنطق في بحثه ودراسته العلمية ، وكذلك جعل الجاحظ الشك سبيلا إلى اليقين ، وأضاف إلى ذلك النقد العلمي ، فكان مغرما بالتنبيه على الخرافات ، وفضح أصحابها ، والنيل منهم ، حتى لقد نقد النظام والكندي ، كما نقد أرسطو أيضا ...

------------------------

(*) انظر : البحوث الأدبية ص 49 اخفاجي ، ومقدمة في المنهج د. عائشة عبد الرحمن ض 43 - 54 .

مرحلة الشك :

أما الغزالي فيوضح في كتابه « المنقذ من الضلال » أنه مر بمرحلة الشك في الأمور ، حتى يقوم الدليل لديه على صحتها ، فيقول : « إن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه ، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين ، فهو علم ! لا ثقة به ، ولا أمان معه ، وكل علم لا أمان معه ، فليس بعلم يقيني » (1) .

التجربة والملاحظة :

وكان الجاحظ يعتمد في بحوثه ومؤلفاته ، وتحصيل العديد من معلوماته ، على التجربة والملاحظة ، ويرى الأمور مع عللها وبراهينها ، يلاحظ ، ويحس ، ويشاهد ، ويتدبر ، ولا يمتهن شيئاً في الكون ، وإن كان ضئيلا ، ودائما ما كان يدعو الناس إلى أن يجربوا بأنفسهم ،،،

فكانت المعاينة عنده تشكل العنصر الأول من عناصر البحث العلمي ، يضم إليها التجربة والعرض ، والمقابلة والتصنيف (2) ، وهكذا كان الجاحظ أحد أعمدة علم الأحياء العرب ، ومن أهم كتاباته كتاب « الحيوان » ، الذي أكد فيه وحدة الطبيعة ، وأوضح فيه العلاقة بين المخلوقات المختلفة .

وقد ظلت أراؤه في التجربة منهجا علميا مقرراً ، لدى الباحثين من بعده ، فذهب ابن رشد إلى أن كل ما أدى إليه البرهان والعقل ، وخالفه الشرع ، يقبل التأويل . . .

مرحلة التفكير :

وقال الإمام مالك « رضي الله عنه » : « إن هذا العلم دين ، فانظروا إلى من تأخذون دينكم منه » (3) ، وذهب ابن حزم إلى حرمة التقليد ، كما ذهب ابن تيمية إلى وجوب الاجتهاد للقادرين عليه .

-------------------------

( 1 ) المنقذ من الضلال ص ۷ ، تحقيق محمد جابر ، طبع مطبعة عطايا ـ باب الخلق بمصر .

( 2 ) انظر : الجاحظ معلم العقل والأدب من 111 - 134 .

( 3 ) مقدمة في المنهج د. عائشة عبد الرحمن ص157 .


فلم يكن الإسلام دينا تقليديا ، وإنما هو نظام جديد ، لا يكتفي بمعالجة القضايا ، التي عالجتها الأديان من قبله ، وإنما نراه يلجأ إلى العقل ، ليحرك به الوعي الذاتي للفرد ، ويدفع به إلى الاستقلال في الرأي ،،،

لذا نجد أن الإسلام قد سلك في دعوته إلى الإيمان بالله وصفاته مسلكا يثير العقل ، وهو الدعوة إلى النظر إلى ما في هذا العالم من ظواهر ، فقال تعالى :  فلينظر الإنسان مم خلق (1) .

وقال : « أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء » (2) .

وقال : « لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل فلك يسبحون » (3) .

وقال : ( إن في خلق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( (4) ... إلخ .

-------------------------------

( 1 ) سورة الطارق : آية 5 .

( 2 ) سورة الأعراف : الآية 185 .

( 3 ) سورة يس : الآية 40 .

( 4 ) سورة آل عمران : الآية 190 .


وهذا الضرب من الآيات الكريمة فيه حث واضح ، ودعوة صريحة للعقل ، على النظر في الكون ، والتدبر في آياته ، وكان لتلك الدعوة أثرها في نمو الحياة العقلية عند المسلمين ، فمجال استعمال العقل في الإسلام فسيح وعميق ، عمق الآيات التي خلقها الله ، ونثرها في الأرض والسموات ،،،

ودعا الإنسان إلى التفكير فيها ، ومحاولة البحث عن أسرارها ، وكشف خباياها ، بالبحث والاستقراء ، واستخلاص النتائج الصحيحة .

لقد كان العقل هو الأساس ، الذي قام عليه منهج البحث العلمي عند العرب ، والمسلمين الأوائل ، فأفاد الجاحظ من المعتزلة والنظام القول بسلطان العقل ، واعتز بجودة العقل والمعرفة ، التي تأتي عن طريقه ، وحذر من اعتزاز الإنسان بالمألوف ، ودعى إلى تحرر العقل منه ،،،

ومن المعرفة الأولى أثناء بحثه ، وخلال محاولته الدائبة للوصول إلى الحقيقة ، فيقول : « إذا سمعت الرجل يقول : ما ترك الأول للآخر شيئا ، فاعلم أنه ما يريد أن يفلح » (1) .

ففتح بتلك المقولة باب الاجتهاد ، على مصراعيه أمام الباحثين ، والدارسين في كل العصور ، ولم يعتمد على الحواس وحدها ، في بحثه عن الحقيقة ، فيقول : « لعمري إن العيون لتخطئ ، وإن الحواس لتكذب ، وما العلم القاطع إلا للذهن ، وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل ، إذ كان زماماً على الأعضاء ؛ وعياراً على الحواس (2) .

ومع ذلك فهو لا يغفل الملاحظة ، ودورها في كشف الحقائق ، فكان يقول : « ليس يشفيني إلا المعاينة » (3) ، وهذه كلمة خالدة في علم الطبيعة ، وهل علوم الطبيعة إلا نتائج هذه المعاينة ؟ !!

وهكذا يسبق الجاحظ « بيكون » ( 1561 - ١٦٢٦م ) الذي نادى بأنه يجب علينا ألا نستند إلى أحكام المتقدمين ، ونسلم بآرائهم ، لأنهم لا يعاينون الأمور عيانا كافيا ، فما ينبغي لنا أن نكون أصحاب أفكار مسبقة ، نؤمن بها ،،،

 بل يجب علينا أن نلجأ إلى المعاينة وإلى التجربة ، ثم إلى استنباط النتائج العامة ، من الأمور التي نعاينها ونجربها (4) .


-----------------

(1) الجاحظ خفاجی ص 174 - 176 .

(2) رسائل الجاحظ جـ 3 ص ٥٨ .

(3) الحيوان جـ 6 ص ١٤٩ .

(4) انظر : الجاحظ معلم العقل والأدب ص 113 ، 114 . . .

أسئلة حول الموضوع :

ما هي أسس البحث العلمي ؟

أسئلة إثرائية عامة :

ما هي الاسس التي يرتكز عليها البحث العلمي؟

المصادر والمراجع :

سبق ذكرها .

الموضوع السابق :

الموضوع الحالي :

الموضوع التالي :

تعليقات