أسس البحث العلمي ج3 ، عناية العرب بالبحث العلمي

أساسيات البحث العلمي :


أسس البحث العلمي




لقد قام البحث العلمي عند العرب على أسس ثابتة ، وبني . على دعائم مقررة ، تتمثل في :

1 ـ الإقبال على البحث بروح علمي ، وعقل نزيه محايد ، وفكر واع مستنير مستعد لقبول الحق ، واعتقاده ، متجرد من تأثير الأحكام المسبقة  ...

2 ـ الشك في الموضوع ، حتى تثبت صحته ، وتتأكد سلامته .

3 ـ التجربة التي تبدأ بالملاحظة ، ثم بالاستقراء والموازنة ، والتركيب ، ثم الاستنباط القائم على المقدمات ، للوصول إلى نتيجة ثابتة ومحددة ، تصدق في كل الأحوال .

وهذا المنهج العلمي ، هو الذي ادعى كل من : « بيكون » ، ثم « ديكارت » أنه من ابتكاره ، وفي الواقع أنهما كانا في ذلك تلميذين للباحثين العرب ، وبخاصة النظام ، والجاحظ ، والغزالي ، والخوارزمي ، والبيروني ، وغيرهم من علماء المسلمين (*) .

لقد اعتبر النظام الشك أساسا مهما من أسس البحث العلمي ، كما اعتمد على التجربة ، واستخدم المنطق في بحثه ودراسته العلمية ، وكذلك جعل الجاحظ الشك سبيلا إلى اليقين ، وأضاف إلى ذلك النقد العلمي ، فكان مغرما بالتنبيه على الخرافات ، وفضح أصحابها ، والنيل منهم ، حتى لقد نقد النظام والكندي ، كما نقد أرسطو أيضا ...

------------------------

(*) انظر : البحوث الأدبية ص 49 اخفاجي ، ومقدمة في المنهج د. عائشة عبد الرحمن ض 43 - 54 .

بيكون والتجربة :

وإذا كان « بيكون » قد لجأ في فلسفته إلى التجربة والعيان ، منذ ثلاثة قرون ، فقد سبقه الجاحظ إليها ، منذ أحد عشر قرنا أو يزيد !!

كما سبق الجاحظ أيضا « ديكارت » ( 1596 - 1650م ) التي قامت فلسفته على العقل ، فيقول : « لا تصدق إلا ما كان واضحا ، فالوضوح إنما هو أصل الأمر في اليقين ، فما ينبغي لقوة من القوى الظاهرة ، أن يكون لها سلطان على حرية تفكيرنا ... إلخ » (1) .

فما أشبه قوله هذا بقول الجاحظ : « لا أجعل الشيء الجائز كالشيء الذي تثبته الأدلة ، ويخرجه البرهان من باب الإنكار ... » (2) .

فإذا كان « ديكارت » يشكك في كل شيء ، فالجاحظ من قبله كان يميل إلى الشك ، وقد جعل الشك سبيلا إلى اليقين ، فيقول : « اعرف مواضع الشك ، والحالات الموجبة له ، لتعرف بها مواضع اليقين ، والحالات الموجبـة له ، (3) .

وبهذا جمع الجاحظ في مذهبه بين معونة المادة ومعونة العقل ، فكان مذهبه بحق مقدمة للأصول التي بنى عليها كل من : « بيكون » ، ثم « دیکارت » منهجهما في البحث العلمي ، بعد عدة قرون من تقرير الجاحظ لمنهجه .

----------------------------

( 1 ) المرجع السابق ص 115 .

( 2 ) الحيوان الجزء 7 ص 41 طبع الحلبي ، تحقيق عبد السلام هارون .

( 3 ) المصدر السابق جـ 6 ص 35.

لقد استكمل الجاحظ كثيراً من صفات العالم ، فجرب ، وعايـن ، وسمع ، وشاهد ، وضم إلى كل ذلك العقل ، الذي جعله دليله في جميع أموره ، وكل خطوات بحثه ، فما كان يصدق إلا ما تثبته الأدلة ، ويحققه الامتحان ، ويصدقه العقل ، فالعقل في نظره ، إنما هو : الحجة في الحكم على الأمور ،،،

لأن الحواس قد تخدع في بعض الأحيان ، فأحب أن يجمع بين معونة الحواس ومعونة العقل ، فقال : « فلا تذهب إلى ما تريك العين ، وأذهب إلى ما يريك العقل ، وللأمور حكمان : حكم ظاهر للحواس ، وحكم باطن للعقول ، والعقل هو الحجة » (1) .

-----------------------

(1) الحيوان جـ 7 ص 41 . 

عناية العرب بالبحث العلمي :

وهكذا ندرك أن ما قرره هؤلاء العلماء الأماجد ، وتوصلوا إليه في بحوثهم ، ومن خلال دراساتهم ، نمط فريد من المنهج العلمي ، في مجال البحث والدراسة ، لم يسبقوا إليه ، وقد رجع علماء الغرب إليهم فيه ، باعتراف المنصفين منهم ، فأخذوا عنهم ، وأفادوا مما توصلوا إليه في دعم حضارتهم الحديثة .

وكانت النتيجة الطبيعية لعناية العرب بالبحث العلمي ، واهتمامهم به ، أن نمت العلوم الإسلامية ، ونشأت العديد من العلوم الإنسانية ، ومن بينها علوم الأخلاق ، والفلسفة ، وآداب السلوك ، وسياسة الملك ،،،

وغيرها من العلوم ، واتسع مجال البحث في العلوم التطبيقية ، من الطب والهندسة ، والفلك والطبيعة ، والكيمياء والحساب ، وعلم الجبر ، والمنطق ، وعلم الكلام ... إلخ ، واتسعت بذلك مجالات الابتكار العلمي أمام الجميع .

ونستطيع أن نجمل القول فيما عرف لبعض علمائنا ، من خطوات رائدة ، على طريق المنهج العلمي ، إذ تقدموا في خطى حثيثة ، واثقة من تأييد عقيدتهم الإسلامية ، وتشجيعها للعلم والعلماء ، وتنظيمها للعقل ، وحرية الفكر ، فانطلقوا يدرسون شتى ظواهر الكون بعقلية متحررة ، ويؤيدون النظريات العقلية ، بالعديد من التجارب العلمية ،،، 

ولم يمض قرن من الزمان على تعريب التراث العلمي للأمم الأخرى ، من فرس ، وهند ، وسريان ، ويونان ، وأقباط ، وأتراك ، حتى قدم العلماء المسلمون الجديد ، في العلوم الطبيعية ، والرياضية ، ودخلوا التاريخ العلمي ، رواداً لآفاق لم يصل إليها أحد من قبل ، فأصلوا مبادئ المنهج التجريبي الاستقرائي ، ووضعوا أوليات الكتب التجريبية ،،، 

في الطب ، والتشريح ، والصيدلة ، والكيمياء ، والطبيعة ، والنجوم ، والفلك ، والملاحة والجغرافيا ، وغيرها من الكتب والمؤلفات ، منطلقين من حيث انتهت إليه الأمم التي سبقتهم ، في ميدان العلم والحضارة ، فحققوا بذلك تقدما علميا باهرا ، أفاد البشرية جمعاء ، ومكن الغرب من وضع أسس حضارتهم في العصر الحديث .

ففي الوقت الذي كان فيه الغرب الأوربي يعيش في ظلمات التخلف والجهل ، ويعاني من اضطهاد الكنيسة للعلم والعلماء ، ومحاربتها لأبحاثهم الفلكية والرياضية ، واتهامها لهم بالكفر والزندقة ، والحكم بقتل بعضهم ، وبحرق كتبهم ، كان الشرق الإسلامي ، ينعم بنهضة علمية هائلة ، ولمعت في سمائه مجموعة كبيرة من العلماء الكبار ،،، 

الذين تركوا أثراً واضحا ، في تاريخ الحضارة الإنسانية ، من أمثال الخوارزمي ، والبيروني ، والفرغاني ، وابن سينا ، والغزالي ، والكندي ، وأبو بكر الرازي ، وابن زهر ، وغيرهم من العلماء المسلمين الأوائل .

فالخوارزمي أحد علماء دار الحكمة ببغداد ، في عصر المأمون ، يعد من أكبر رياضي عصره ، وواحداً من أكبر رياضي العصور على الإطلاق ، حيث وصلت كتبه ومؤلفاته إلى أوربا ، في القرن الثاني عشر الميلادي ، فكان لها أثرها الكبير في عقولهم وأفكارهم ، وفي مقدمتها : « رسالته المنهجية في الحساب الرياضي » ، التي ترجمت إلى اللاتينية ،،، 

ولا زالت تحتفظ مكتبة « كامبردج » بنسختها الفريدة ، وبها بدأ حساب اللوغاريتمات ، يحل محل الطريقة القديمة للمعداد اليوناني الروماني .

كما تمت ترجمة كتابه الآخر « المختصر في حساب الجبر والمقابلة » إلى اللاتينية أيضا ، فأعطى علم الجبر اسمه بمصطلحه الحديث ، وبزغ به فجر جديد في ميدان الرياضيات .

المصادر والمراجع :

سبق ذكرها .

الموضوع السابق :

الموضوع الحالي :

الموضوع التالي :

تعليقات