صفات الباحث :

صفات الباحث

صفات الباحث الناجح :

«القدرة على البحث منحة يمنحها الله لبعض الناس ولا يمنحها لآخرين فمن ثم كان توفيق الله وهدايته الركيزة الأولى في التهيؤ للبحث والقيام بأعبائه، فليست القراءة وحدها ولا جمع المادة العلمية ولم شتاتها وتبويبها وتصنيفها كافيا لكتابة بحث نافع.

 فلا بد من توافر هذه القدرة الممنوحة من الله تعالى، فإذا لم يكن الإنسان ممنوحا هذه القدرة فسيكون غير مؤهل للبحث العلمي، وإذا أقدم عليه فسيخرج بحثه دون المستوى العلمي المطلوب، وبعد هذه الموهبة التي يمنحها الله للباحث لابد من توافر عدة عناصر أو صفات تكون أساسا في تكوينه العلمي» (1).

حيث ينبغي أن يتحلى الباحث الناجح في بحوثه بصفات يقاس بها ويحاسب على تجنبها.

ولقد اهتم القدماء بما يجب توافره فيمن يتصدى للبحث والدرس فنبه مالك بن أنس المتوفى ١٧٩هـ على ألا يؤخذ علم الحديث من أربعة بقوله : «لا يؤخذ الحديث من سفيه ، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من كذاب يكذب في أحاديث الناس ولا من شيخ له فضل وصلاح وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدث به»(2).


والصفات التي يجب توافرها في الباحث كي يكون باحثا قديرا ناجحا صفات كثيرة، نذكر منها:

1-"موهبة البحث" :

«إن البحث موهبة تمنح لبعض الناس ولا تمنح لآخرين، فالبحث خلق وإبداع، وتلك قدرة خاصة تبرز أو تتألق لدى بعض الأفراد، وتتضاءل أو تنعدم عند آخرين »(3).

ومن هنا فليس من الضروري أن يكون باحثا ناجحا كل طالب يحرز تفوقا في امتحانات المستويات الجامعية، فقد يكون متمتعا بموهبة الحفظ والقدرة على التحصيل ، ولكنه محروم من موهبة البحث ، وقد يكون باحثا قديرا بعد تخرجه في الجامعة، برغم أنه كان في دراسته الجامعية متأخرا في الترتيب، ذلك أن موهبة البحث لديه قوية.

----------------------
(1) أضواء على أسس البحث العلمي وقواعده ، ص۱۸.
(۲) البحث الأدبي أصوله ومصادره ، ص٢٥.
(۳) كيف تكتب بحثا أو رسالة ، ص۱۸.

وحيثما وجدت موهبة البحث عند الإنسان فلا تكفي وحدها ، بل لابد من صقلها «وتنميتها بالمعرفة والمثابرة والاطلاع على البحوث الجيدة وعمق التفكير فيها وفي خطواتها الفكرية .

 ثم الاستمرار على محاولات  البحث والدراسة ، والتعرف على أخطاء المحاولة كما يبرزها الأساتذة والمشرفون والنقاد ، والاتجاه لتحاشى هذه الأخطاء في الأعمال الجديدة » (۱) ، والإفادة من ذوي الخبرة في مجال البحث ، كل ذلك من شأنه أن ينمي موهبة البحث عند الباحث ، ويضاعف من تمكنه من أدوات البحث.

2-"طاعة الله تعالى" :

« فطاعة الله والالتزام بأوامره واجتناب نواهيه مفتاح كل خير وفيه نقاء كل قلب، ومصباح كل عقل.

وقديما شكا الإمام الشافعي رضي الله عنه - وهو من هو - سوء حفظه إلى شيخه فارشده إلى هذه الصفة، فقال منشدا :

شكوت إلى وكيـع سـوء حفظي  * فأرشدني إلـى تـرك المعاصـي
وأخبرنـي بـأن العلـم نـور * ونور الله لا يهـدي لعاصي (٢)

وطاعة الله تفتح للباحث مغاليق الأمور، وتيسر له طريق البحث وتوجد له مع كل ضيق فرجا، ومن كل هم مخرجا، فإذا استعصت مسألة
أو قضية على الباحث، ولجأ إلى الله تعالى ، فلا شك في أن الله تعالى سيرشده إلى الصواب، لأنه تعرف إلى الله في الرخاء، فعرفه الله في الشدة.

وصدق الله العظيم إذ يقول : {... ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } (۳) .

---------------------------------------
(۱) السابق ، ص۱۹، ۲۰.
(۲) أضواء على أسس البحث العلمي وقواعده ، ص۱۸ .
(۳) سورة الطلاق : من الآيتين ( ۲، ۳) .

3-"الإخلاص والتجرد":

ينبغي أن يكون الباحث مخلصا للبحث، منقطعا له، خاليا من الشواغل، ليكون على صلة بالبحث دائما،

كما يكون متجردا لبحثه بمعنى الانقطاع التام للبحث، وعدم الانشغال عنه بشيء من شأنه أن يصرف الباحث عن البحث، ويقطع تفكيره فيه، وهذا يساعد على جودته واتصال عناصره اتصالا عضويا، فيخرج البحث مكتمل المعالم والجوانب لا توجد فيه فجوات .

إن إخلاص الباحث وتجرده لبحثه أمر مهم ينبغي أن يتوافر في الباحث :

« فيكون مخلصا للموضوع الذي يتناوله، فلا يضن عليه بجهد أو وقت بحيث لا يبغي من ذلك غرضا دنيويا يتصل بشخصه مهما كان ذلك الغرض، بل عليه أن يتوفر على موضوعه بتجرد كامل لا يهدف إلا إلى إبراز الحقيقة وتجليتها ابتغاء مرضاة الله، وهذه الصفة تعد مفتاحا للقبول والتوفيق والهداية التي يمنحها الله له» (1).

4- "سعة الاطلاع وعشق القراءة" :


وهذه صفة ضرورية للباحث إذ بها تتنوع معارفه، وتكثر معلوماته وتتعدد ألوان ثقافته، ويكون لديه من المادة العلمية ما يستطيع به أن يقيم بحوثه، ويخرجها على وجهها الحسن المطلوب.

ومن المعروف أن « البحوث الأدبية تقوم على عاملين أساسيين هما: استقراء الحقائق الجزئية ، واستنباط الحقائق الكلية والقضايا العامة، ولا يراد بالاستقراء جمع الحقائق المفيدة وغير المفيدة، فدائما لابد من الانتخاب والاختيار والانتقاء، 

ولابد أيضا من الاستقصاء الدقيق والإحاطة التامة بكل الحقائق المتصلة بالبحث الأدبي ونصوصه الجزئية حتى يمكن الوصول إلى الحقائق والصفات الكلية، ولذلك ينبغي على الباحث في الأدب أن يبدأ بجمع الأمثلة والنصوص ويصنفها حسب الموضوعات التي يتناولها في بحثه المعين» (2) .

-----------------------------
(1) أضواء على أسس البحث العلمي وقواعده ، ص۱۹.
(2) البحث الأدبي ، د. شوقي ضيف ، ص۳۷ .

ولن يستطيع الباحث القيام بالاستقراء الدقيق إلا إذا كان عاشقا للقراءة ، محبا لها ، صبورا عليها، يبذل أقصى جهده فيها متعمقا في قراءة المصادر، دقيقا في فهم ما يقرأ فهما صحيحا، بذلك يستطيع أن يقوم بعملية استقراء دقیق تمكنه من تبديل ما قد يشيع بين الباحثين من الأحكام الخاطئة. 

فعشق القراءة أساس يقف عليه الباحث يتمكن به من الإلمام الصحيح الدقيق بكل جوانب الموضوع والمادة العلمية التي تخدمه ،

 « وعشق القراءة وإدمانها هو الأرضية التي يقف عليها البحث بجميع جوانبه، فالقراءة هي مفتاح العلم، وعن طريقها نكتشف أسرارا علمية وموضوعات طريفة يستهوينا أن نبحثها ونقف عندها، وكشف الميول الحقيقية لا للباحث إلا عن طريق ثقافة واسعة تتم له عن طريق صداقته مع الكتاب»(1).

وسعة الاطلاع وعشق القراءة صفة ينبغي أن يحرص عليها الباحث لأنها تخدمه أولا وقبل كل شيء، وتحقق له مكانة في عالم البحث 

ويجب أن يندفع إلى القراءة بنفسه، دون أن يحثه أحد على ذلك « فالمفروض في الباحث أن يقرأ بينهم، كل ما يتصل ببحثه من مصادر ومراجع، وأبحاث ومقالات، ويقف طويلا عندها متأملا حينا ومستنتجا حينًا آخر، حتى لا يواجه بشيء فاته، فيحرج في موقفه، ويشك في نتائجه،

 واستقصاء ما يتعلق بموضوعه يكسبه المزيد من المعرفة، ويوسع أفاق فكره، وهذا يعينه على إدراك دقائق الأمور، وحسن الربط بينها وإجادة عرضها، وسلامة استنباط النتائج منها، ويجنبه الخطأ في الفهم والتفسير والتأويل، ويمكنه من النقد والتحليل بدقة ومهارة ، وعليه يترتب اتساق البحث، وشيوع اللغة الجيدة في مختلف نواحي البحث» (۲).

وهكذا يتبين أن سعة الاطلاع وعشق القراءة والاستقراء الكامل لمصادر البحث القائم على الدقة في اختيار المادة العلمية اللازمة للبحث، أمور مهمة للباحث وضرورة من ضروراته، لأن ذلك يوقفه على معلومات وأفكار جديدة ومفيدة.

------------------------------
(۱) محاضرات في أدب البحث ، ص٢٤ .
(۲) البحث الأدبي ، د/ السيد أبو ذكرى ، ص٢٥، ٢٦ .

5-"حب العلم والتلذذ به" :

ينبغي على الباحث أن يكون محبا للعلم، متلذذا به لا يشعر بضيق منه مهما طال به طريق العلم ومهما كان صعبا عليه حتى يستطيع أن يقدم بحوثا جديدة، مفيدة ونافعة، فالإنسان لا يجيد في أي مجال إلا إذا كان محبا لهذا المجال، مقبلا عليه، وهكذا في مجال البحث لن يجيد فيه الباحث إلا إذا كان محبا له .

«ولا شك أن حب العلم يفتح مدارك العقل ويجعله مضيئا بمصابيح لا ينضب نورها ، كما أنه يحبب الإنسان في الاطلاع والاستزادة دون ملل أو سأم، والتلذذ بالعلم درجة من درجات الرقي والكمال التي لا يرقى إليها إلا الخاصة ، يروي الماوردي أن بعض المتعلمين وقف بباب عالم ...

ثم نادى : تصدقوا علينا بما لا يتعب ضرسا ولا يسقم نفسا، فأخرج له طعاما ونفقة ، فقال : فاقتي إلى كلامكم أشد من حاجتي إلى طعامكم، إني طالب هدى، ولست سائلا ندى، فأذن له العالم وأفاده عن كل ما سأل عنه، فخرج جزلًا فرخا وهو يقول: علم أوضح لبسا خير من مال أغنى نفسا» (۱).

6-"الإحاطة بمناهج البحث" :

من الصفات المهمة التي ينبغي أن يتحلى بها الباحث، إحاطته بمناهج البحث، ومقومات كل منهج منها وما بينها من اختلافات حتى يستطيع أن يحدد لنفسه المنهج الذي يتلاءم مع موضوعه والذي سيسير على أسسه في دراسة موضوعه.

لابد أن يكون لدى الباحث دراية تامة بمقومات المنهج الفني والمنهج النفسي، والمنهج التاريخي، والمنهج الاجتماعي والمنهج الجمالي والمنهج التكاملي ( الذي يجمع المناهج السابقة في إطاره) وغيرها ، 

وهي مناهج بحثية أكثر منها نقدية، يطبقها الباحث في بحثه، قد يلتزم بأحدها أو بعضها، وقد تقتضي طبيعة الدراسة خضوع الباحث لهذه المناهج كلها. 

كل في موضعه المناسب من البحث. 

وإذا لم تكن لدى الباحث دراية بطبيعة هذه المناهج ومقوماتها فسيخلط بين الأمور ويخرج بحثه مشوشا. 


ومعروف أن المنهج هو الطريقة التي يعالج بها الباحث خطة البحث، ويعرض بها قضاياه وعناصره.

وعليه لابد للباحث أن يكون عالما بمناهج البحث المختلفة، حتى يستطيع أن يخضع مادة بحثه لهذا المنهج أو ذاك، وأن يغير في منهج بحثه الخاص حسبما تقتضيه طبيعة السير فيه ، بما يحقق الفائدة المرجوة والنتائج المنشودة.

-----------------------------

(۱) أضواء على البحث العلمي وقواعده ، ص۱۹ ، وانظر : أدب الدنيا والدین ، ص۱۷.

ولا يظن الباحث - كما يفعل بعض الدارسين وينص على ذلك في مقدمة بحثه - أن منهج البحث يقتصر على جمع المادة ثم وضعها في أبواب وفصول متناسقة، ثم يفصل القول في تلك الأبواب والفصول في مقدمة البحث، فهذه خطة البحث وليست منهجه، إنما المنهج شيء آخر كما أشرنا ، وسنفصل القول في مناهج البحث في مكان آخر.


7-"التشكك" :

ولا نعني به التردد القائم على الوسواس والاضطراب النفسي عند الباحث، فلا يستطيع القطع بحكم في قضية، وإنما المقصود بالتشكك هنا ألا يسلم بنتيجة توصل إليها من أول الأمر، وإنما يشك في صحتها فيدرس ويناقش ويحلل ليتأكد من صحتها قبل تسجيلها.

ويقصد به كذلك ألا يأخذ الباحث آراء الآخرين على أنها قضايا مسلمة، كأن يقف الباحث أمام رأي كاتب كبير ويسلم به دون مناقشة بل عليه التشكك والمناقشة للوصول إلى الحقيقة والصواب، بموافقة صاحب الرأي أو مخالفته مع ذكر الأسباب.

فالباحث هنا مطالب « بألا يأخذ آراء الغير على أنها حقيقة مسلّم بها. فكثير من الآراء بني على أساس غير سليم فليدرس الباحث آراء غيره ودعائمها، فيقر منها ما يتضح له صحته، ويرد ما لم يكن قوي الدعائم » (1) .

فلا يقال : هذا باحث كبير، أو ذاك عالم مشهور، بل عليه أن يدقق في آرائهم وأفكارهم فقد يصوب خطأ وقع فيه أحد الباحثين الكبار أو عالم مشهور عن طريق الحجة القوية، والدليل المقنع والبرهان الساطع فلا أحد من البشر معصوم من الخطأ.

وبذلك النهج العلمي « يهيئ الباحث لنفسه التخلص من الخضوع والانقياد لأفكار الباحثين السابقين له نافذا إلى عالم حر في البحث فهو لا يدون ما دونه السابقون - شأنه شأن آلة التصوير الحديثة دون أي مناقشة أو محاولة للتحوير والتعديل، بل هو يدون أفكارهم ولكن ليناقشها وليضيف بجانبها أفكاره،

فهو ليس عبدا مسخرا لغيره بل هو صاحب عقل حر مستقل، له شخصيته وله طموحه ومحاولته الجادة في أن يشارك غيره من الباحثين آراءهم وألا يكون نسخة ممسوخة أو مشوهة لهم، يعيش على فتات ما سجلوه من أفكار وآراء، ومن أخطر الأشياء أن يبدأ الباحث حياته عالة على غيره من الباحثين الذين سبقوه فإن ذلك خاصة من خواص بحوثه،

ولا يستطيع فيما بعد أن يتحول باحثا بالمعنى الدقيق لكلمة باحث، فقد انطبع بطوابع التبعية لغيره ولم يعد يشعر لنفسه بوجود حقيقي، فوجوده دائما تابع لوجود غيره كوجود النباتات المتسلقة على الأشجار الشامخة » (2).

---------------------------------

(1) كيف تكتب بحثا أو رسالة ، ص15.

(2) البحث الأدبي ، د.شوقي ضيف ، ص18.

ولا شك في أن « من أساسيات البحث الشك في كل ما يتوصل إليه من نتائج أو حقائق، فهذا يدفعه إلى مراجعة نفسه مرة بعد أخرى ومراجعة مصادره كذلك ليصل إلى درجة اليقين، وقديما قالوا: الشك خير موصل إلى الحقيقة، ورحم الله أبا حامد الغزالي فقد كان يقول: « إن الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في الغي والضلال » .

والشك العلمي شيء يخالف التردد الذي يبتلى به بعض الناس لأن الشك العلمي الذي نقصده ظاهرة صحية يتمتع بها الباحث تعينه على التثبت من كل ما يقرأ، ومراجعة كل ما يصل إليه من نتائج» (1) .


8-"الالتزام بالأخلاق الفاضلة" :

الالتزام بالأخلاق الفاضلة أخلاق العلماء التي ينبغي أن تتوافر فيهم صفة ينبغي أن يتحلى بها الباحث لينال ثقة الآخرين في فكره وعلمه وتحقيق بحوثه مكانة عالية، فلا يدفعه علمه الغزير إلى غرور أو كبرياء، وإلا حكم على نفسه بالفشل الذريع، والفناء السريع.

« فالعالم الذي لم يستفد بعلمه خلقا فاضلا ولم تظهر ثمرته في مسلكه وتصرفه هو بعيد كل البعد عن لب العلم وجوهره لأن العلم لم يمس شغاف قلبه، وقد شبه الله تعالى اليهود في علمهم بالتوراة ولم يعملوا بها، ولم يستفيدوا بما عملوا بالحمار يحمل الكتب النافعة والأسفار العظيمة، ولا يعرف ماذا يحمل وذلك في قوله تعالى :

 { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } (2). 

وصدق الشاعر إذ يقول :

لا تحسبن العلـم ينفـع وحـده

 مـا لـم يـتـوج ربـه بـخـلاق


والعلـم إن لم تكتنفـه شـمـائل 

تعليـه كـان مطيـة الإخفـاق

-----------------------------------

(1) أضواء على أسس البحث العلمي وقواعده ، ص۲۳.

(2) سورة الجمعة : من الآية (5).

  • التواضع :

ومن أهم الأخلاق التي يتحلى بها الباحث التواضع وعدم الإصرار على الخطا، فالتواضع من أهم الصفات التي يتحلى بها الباحث، لأن التواضع عطوف، والعجب منفر، وهو بكل أحد قبيح وبالعلماء أقبح، لأن الناس بهم مقتدون،

 ولأن في التواضع مراجعة للنفس وخضوعا للحق وفي الكبر تعمية وإضلالا، وبعدا عن طريق الصواب ، فالباحث والعالم كلاهما زينتهما في التواضع ولين الجانب، لا في الشكل والملبس ،ومن ثمارالتواضع أنه يدفع الباحث إلى تصحيح خطأ وقع دون ترفع أو مكابرة، فهو يعلم أن الرجوع إلى الحق فضيلة، بل هو رأس الفضائل»(1).

ومن ثمار التواضع أيضا احترام الباحث آراء الآخرين وتقديرها،حتى وإن كانت متعارضة مع رأيه، فلا يدفعه الاعتداد برأيه إلى احتقار الآخرين والسخرية منهم، وتحقير آرائهم وأفكارهم، حتى وإن تبين له خطؤها، فإن عليه أن يعالج هذا الخطأ بتواضع وأدب رفيع.

وهكذا ينبغي « على الباحث أن يلتزم بأدب البحث ويتحلى بتواضع العلماء، حتى يتجنب الزلل في المتاهات التي تنافي روح البحث ولا تتفق مع وروح الباحثين.

 ومن ثم يتجنب الباحث الغرور العلمي الذي يقوده للحط من آراء غيره ، والزراية من نتائج سابقيه أو النيل من شخصياتهم وأعمالهم - حتى ولو كان صائبا في عرضه ونقده - لأن هذا يهبط بعمله ويحط من قيمته ، ويقلل من شأنه وينفر من متابعة بحثه» (2).

-----------------------------

(1) السابق ص۱۹، ۲۰.

(2) البحث الأدبي ، د/ السيد أبو ذكرى ، ص۲۷.


9-"الأمانة العلمية":

« وهي ركيزة هامة في إخراج البحوث ، فالبحث العلمي مسئولية كبيرة لا يتهاون بها إلا من جهل معنى البحث ، وهذه المسئولية تتطلب من الباحث الأمانة العلمية ، بمعنى أن يدقق في نقل النصوص من المراجع والمصادر ، وينقلها نقلًا صحيحا دون تغيير أو تحريف وأن يتجرد في فهمها ، وأن يقوم بتوثيقها بنسبتها إلى أصحابها ...

ولذا فإن تسجيل مراجع البحث ومصادره في نهاية البحث يعد أمرا جوهريا في تقييم البحوث والحكم عليها ، والتغاضي عن ذلك يعد خدشا في أمانة البحث وخللًا جوهريا فيه لا يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه .

وقد أشار بعض الكاتبين إلى مسألة هامة تتعلق بالأمانة العلمية أعني بها الأمانة عند الانتهاء إلى نتيجة، فلا يحاول أن يلوي عنق الحقائق لكي تتمشى مع رأيه هو وهواه، وإنما عليه أن يكون أمينا في تقويم الحقيقة مهما بدت مخالفة لميوله أو معارضة لهواه.

  • ومن الأمانة أيضا أن يعترف بالجهود التي بذلت سواء من سابقيه أو معاصريه والتي تتصل بالموضوع الذي يعالجه، فلا يتغاضي عنها بل ينبغي أن يشير إليها ويستفيد منها، وأن يناقش الرأي المخالف منها بأدب جم تقديرا منه لجهود هؤلاء وأولئك» (1) .
  • ومن الأمانة كذلك أن « يحذر الباحث النقل عن ناقل من المرجع الأصلي ، فربما أخطأ في النقل أو زيف النص لحاجة في نفسه، و أيضا لكي لا نخمد البحث بكسلنا وتلصصنا على جهود الغير، ولكي لا يكون البحث مكرزا لا فائدة منه» (2).
  • ومن الأمانة « الإشارة إلى صاحب كل فكرة أو رأي يتضمنه البحث في متنه أو هامشه وضرورة التفريق بين نقل النصوص حرفيا أو إعادة صياغتها، لأن الخلط بينهما يؤدي إلى اتهام الباحث بالسرقة وعدم الأمانة، ويحول دون معرفة الظروف أو الملابسات التي تصاحبها.

--------------------------

(1) أضواء على أسس البحث العلمي وقواعده ، ص۲۲، ۲۳ .

(2) محاضرات في أدب البحث ، ص۲۷، ۲۸ .

  • ومن أمانة النقل الإشارة في الهامش إلى المصدر، والصفحة التي اقتبس منها، واسم مؤلفه ومكان نشره والسنة التي ظهر فيها من باب التسهيل لمن يريد أن يستوثق من المصدر.
  • كذلك من أمانة النقل عدم الاعتماد على مؤلفات ذات ميول خاصة أو مؤلفين معروفين بعدم الدقة، مهما اتصفت أعمالهم بالموضوعية» (۱) .

10-"نبذ التحيز والعصبية" ( الموضوعية ) :

من أهم صفات الباحث الصدق والحيدة المطلقة وعدم التحيز لصاحب رأي أو فكر إلا بدليل مقنع وبرهان ساطع، كما أنه لا يتعصب لرأيه مهما كان، بل عليه أن يتقبل النقد، وأن يرجع عن رأيه إذا تبين له أنه خطا فلا يتعصب لرأي أتي به بأي حال من الأحوال بل يجب أن يكون موضوعيا ...

وذلك « بحياده الفكري في كل ما يقرأه ويسجله ويدونه، وتجرده من الأهواء الشخصية، وتخلصه من الأوهام الذاتية، وحرصه على أخذ ما يراه حقا، ويؤمن بصوابه، ويدعم كل ما يذهب إليه.

وخلال ذلك كله لا يغيب عنه الدليل القاطع أو الحجة الدامغة فيما يصل إليه، مع تجنب الميل لهوى، والجنوح لما يطغى على موضوعية البحث والدرس» (۲) .

كذلك يقتضي نبذ التحيز والعصبية، وتقتضى الموضوعية من الباحث «ألا يحذف الدليل أو الحجة أو النظرية التي تعارض رأيه وتعادي مذهبه وتنقض اتجاهه، ويرد عليها بما يتفق واتجاهه، ولا يتعارض مع رأي الأغلبية في مجال التخصص» (۳) .

وتقتضى الموضوعية ونبذ التحيز والعصبية من الباحث أيضا ألا يدون ما دونه السابقون بتحيز دون دليل أو حجة، والا يعارض ما دونه السابقون دون وعي أو فهم، ودون حجة أو دليل وأن يدعم أراءه الشخصية بأراء علمية ذات قيمة، وأدلة قوية تحمل الآخرين على الاقتناع بها والتسليم بموضوعيته في بحثه.

------------------------------------

(۱) البحث الأدبي ، د/ السيد أبو ذكرى ، ص۲۳.

(۲) البحث الأدبي ، د/ السيد أبو ذكرى ، ص٢٦ .

(۳) السابق ص۲۷، ۲۸.

ولا شك في أن التحيز والعصبية في البحث يبعدان الباحث عن الصواب والموضوعية وهذا من شأنه أن يضعف بحثه ويقلل الثقة فيه.

 وتقتضى الموضوعية كذلك « أن تسود الدقة أبحاث الباحث وأن ينظم عرض أفكاره عرضا منطقيا ينتهي لنتائج مقبولة لا تناقض فيها تقوده الأمانة في النقل والعدالة في النقد والسلامة في العرض والقوة الأداء،

 وعدم التسليم بآراء سابقيه على أنها حقيقة مسلمة حيث تبنى بعض الآراء على أسس غير سليمة، لذا كان من الدقة تمحيص ما يقرؤه، وفحص ما يتناوله، حتى يعتمد الموضوع على دعائم صحيحة وأسباب قويمة» (1) .


11 -"الصبر والمثابرة":

« من أهم سمات الباحث الصبر والمثابرة ، فالبحث طريقه طويل وشاق ومليء بالصعاب فإذا لم يكن الباحث متذرعا بالصبر والمثابرة على العمل فإن الياس يتسرب إلى نفسه فيصرفه عن طريقه ، وقد وجه الصحابي العالم عبد الله بن عباس رضي الله عنه إلى هذه الخاصية في قوله:

« لو كان أحد مكتفيا من العلم لاكتفى منه موسى على نبينا وعليه السلام، ولما قال : { هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا }(2) 

وكان جابر بن حيان ينصح بالدأب والصبر والمثابرة وعدم اليأس من الكشف عن الحقيقة المنشودة، فما أكثر ما يقتضي البحث عناء شديدا قد لا يحتمله الباحث فينفض عنه في يأس وقنوط، لكن الباحث الذي يريد الوصول إلى الحقيقة يجب عليه المثابرة التي لا تعرف إلى اليأس سبيلا ...

ويستشهد ابن حبان في هذا السياق بالآية الكريمة : { ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }(3)، (4).

-------------------------

(1) السابق ص٢٦ .

(2) الكهف : من الآية (66).

(3) يوسف : من الآية (٨٧).

(4) أضواء على أسس البحث العلمي وقواعده ، ص۲۰، ۲۱، وانظر : محاضرات في بعض طرق إعداد البحث ، ص۲۱ وما بعدها.

ولا شك في أن هذه الصفة « الصبر والمثابرة ضرورية للباحث لأنه سيواجه حتما في بحثه صعوبات وعقبات فإن لم يتحل بالصبر والمثابرة حينئذ سيتسرب اليأس إلى قلبه، فينصرف عن الموضوع، وإذا كان هذا دابه فلن يستطيع أن يتم بحثا .

ومما لا شك فيه أن صبر الباحث يكون في مواجهة الصعوبات والمشكلات التي تواجهه في بداية بحثه، فإذا ما تلاحقت الصعوبات عليه وتعددت العقبات كانت المثابرة منه على استمرار البحث، ومواصلة العمل فيه دون انقطاع.

الموضوع السابق :

علامة الحرف.

الموضوع الحالي :

صفات الباحث الجيد.

الموضوع التالي :

المزيد عن الموضوع :

تعليقات