أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي

أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي

تأثير الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي (2) أثر الأدب المشرقي ( الرؤية الإيجابية)

***

أثر الأدب المشرقي في الأدب الأندلسي (*) :

مما لا شك فيه أن أدب أي أمة هو نتاج بيئته التي نشأ فيها، وتشكل بها، ثم هو ثمرة من ثمار الظروف السياسية، والاجتماعية، والثقافية لتلك البيئة، إضافة إلى مواقف الأديب الخاصة من تلك الروافد .

ولم يكن الأدب الأندلسي بدعا بين آداب الأمم، فقد كانت له بيئة نشأ فيها وروافد غذت عقول ومشاعر أدبائه، ثم هو لم يكن بمعزل عن التأثر بالبيئات المجاورة، أو بالأحداث التي عاشتها، وعانتها الأندلس. 

وعلى ذلك يمكن القول: إن الأدب الأندلسي شأنه شأن أي أدب في أي أمة، في أي إقليم، من حيث توافر عوامل نتاجه ونشأته.

ومن ثم فهو أدب جدير بالدراسة، حقيق بالتحقيق فيه، غير أن اللافت للنظر أن حظ الأدب الأندلسي من الدراسة لم يكن على الدرجة التي تليق به .

أ- أثر الأدب المشرقي " الرؤية السلبية " :

1- رأي الدكتور أحمد هيكل :

وقد أشار إلى ذلك الدكتور أحمد هيكل في قوله: "لقد لقي الأدب الأندلسي كثيرا من إهمال الدارسين في عالمنا العربي، مع وفرة وجودة ما كتبوا عن أدب المشرق، منذ جاهليته إلى عصره الحديث ، وقد يكون إعراض بعض هؤلاء عن درس الأدب الأندلسي بحجة أنه لم يأت بجديد، وأنه ليس إلا صورة للأدب المشرقي، أو محاكاة له"(1).

------------------------

(*) بقلم الأستاذ الدكتور/ عبده إبراهيم.


2- رأي الدكتور شوقي ضيف :

كذلك يرى الدكتور شوقي ضيف تبعية الأدب الأندلسي للأدب المشرقي حيث يقول: "ونحن لا نبالغ إذا قلنا بأن شخصية الأندلس في الأدب العربي ليست من القوة كما ينبغي، وخاصة إذا أهملنا جانب البيئة، فمما لا شك فيه أن هذا الجانب أثر أثرا واضحا في طبيعة الأدب الأندلسي شعره ونثره، غير أننا إذا تركنا هذا الجانب ، لم نكد نجد شيئًا آخر، فقد كانت الكتلة الأندلسية تنساق نحو تقليد المشرق بكل ما فيه، وحتى شعر الطبيعة عندهم لم يأتوا فيه بجديد سوى الكثرة، أما بعد ذلك فصورته كله بما فيها من أفكار، وأخيلة، وأساليب هي الصورة المشرقية ... وإن الإنسان ليخيل إليه أن الأندلس كانت تقلد المشرق في جميع جوانب الحياة". (2)

وفي موضع آخر يقول: "وإذا تركنا الحياة العقلية في الأندلس إلى الحياة الأدبية وجدنا ظاهرة التقليد للمشرق واضحة جلية، إذ تصاغ الكتب الأدبية عند الأندلسيين على شكل الكتب الأدبية عند المشارقة، يصاغ "العقد الفريد" على شاكلة "عيون الأخبار"، ويصاغ كتاب "الحدائق" لابن فرج الجياني في أهل زمانه على شكل كتاب "الزهرة" للأصبهاني، ويصاغ كتاب "الذخيرة" لابن بسام على شكل كتاب "اليتيمة" للثعالبي، والحق أن الحركة  الأدبية في الأندلس صيغت صياغة على شكل الحركة الأدبية في المشرق". (3)

---------------------------

(1) الأدب الأندلسي من الفتح إلى سقوط الخلافة، د. أحمد هيكل، ص 5.

(2) الفن ومذاهبه في الشعر العربي، د. شوقي ضيف، ص ٤١٢.

(3) السابق: ص 415.


ويصل في النهاية إلى القول: "والحق أنه ينبغي أن لا نتعلق بالفكرة الشائعة من أن الأندلس كان لها شخصية واضحة في تاريخ الشعر العربي، فإن هذه الشخصية تنحصر في كثرة الإنتاج، وخاصة في شعر الطبيعة، أما بعد ذلك فالأندلس تستعير من المشرق موضوعات شعرها، ومعانيه، وصوره وأساليبه، وكل ما يتصل به استعارة تكاد تكون طبق الأصل ...  فقد استقر في أذهان الشعراء أن خير عصور الشعر وأزهاها هو العصر العباسي وما ينطوي فيه من شعراء عظام...... فذهبوا يقرؤون لهؤلاء الشعراء وأمثالهم، ثم أخذوا يحاكونهم دون أن يفهموا مذاهبهم فهما واضحا، أو يعرفوا ما بين هذه المذاهب من مفارق واسعة". (1)

3-  رأي أحمد حسن الزيات : 

وعلى الشاكلة نفسها يقرر الأستاذ/ أحمد حسن الزيات أن الأدب الأندلسي صورة مكرورة من الأدب المشرقي، فهم وإن تأنقوا في ألفاظه، وتفوقوا في معانيه، ونؤعوا في قوافيه، وتفننوا في خياله، ودبجوه تدبيج الزهر، وسلسلوه سلسلة النهر......إلا أن شعرهم على الجملة- جار مجرى الشعر المشرقي، فلم تبعد حدوده، ولم تكسر قيوده إلا بمقدار ما ذكرناه من ابتداع الموشح وتنويع القافية (2).

--------------------------

(1) الفن ومذاهبه في الشعر العربي، د. شوقي ضيف، ص 438-439.

(2) تاريخ الأدب العربي، أحمد حسن الزيات، ص۲۹۳.


4-  رأي الدكتور جودت الركابي : 

كما يؤكد الدكتور/ جودت الركابي على أن الأندلسيين كانوا في آدابهم مقلدين للمشارقة، لأنهم كانوا يرون فيهم المثل الأعلى لشعرهم وأدبهم، ويجدونهم منبع علومهم وآدابهم وفنونهم، وقد ظلت معاني الشعر الأندلسي سطحية ليس فيها إكثار من الحكم، وطرق المعاني الفلسفية؛ لعدم إقبال الشعراء والأدباء على الفلسفة العقلية، ولانصرافهم على اللهو والحياة السهلة (1).

موقفي من الآراء السابقة :

إن المتأمل في الآراء السابقة يلحظ أنها تتشابه في الحكم، وأنها تكاد تتفق على أن الأندلسيين مجرد مقلدين للمشارقة، أما حجج هؤلاء فلا قرينة تقويها، ولا برهان يساندها، مما يدل على اكتفاء اللاحق برأي السابق دون النظر والتدقيق في الأدب الأندلسي ذاته.

رأي ابن بسام في ذلك :

ولعل قول "ابن بسام" قد دفع السابق واللاحق إلى إصدار مثل هذه الأحكام حيث يقول: 

"إن أهل هذا الأفق- يعني الأندلس- أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا صنما، وتلوا ذلك كتابا محكما"(٢).

 وإذا كان معظم الدارسين قد رأوا في الشعر الأندلسي صورة مكرورة من الشعر المشرقي، فإن بعضا منهم رأوا فيه صورة جديدة تغاير الشعر المشرقي،  وكما اتسمت آراء الفريق الأول بالتعميم، وقلة التدليل، وجاوزت حد المبالغة في الأحكام، فإن أصحاب الرأي الآخر لم يفلتوا من ذلك.

------------------------------------

(1) في الأدب الأندلسي، د. جودت الركابي، ص59.

(2) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ابن بسام: ۲/۱.


ب- أثر الأدب المشرقي "الرؤية الإيجابية" :

1- رأي الرافعي :

فالرافعي يرى فرقا كبيرا بين الشعر المشرقي والشعر الأندلسي، ومن ثم يخطئ من يزعم أن شعر الأندلسيين يغيب في سواد غيره من شعر الأقاليم الأخرى كالعراق، والشام، والحجاز، بحيث يشتبه النسيج، وتلتحم الديباجة، وذلك زعم من لا يعرف الشعر إلا بأوزانه، ولا يميز غير ظاهره (۱).

2-  رأي الدكتور أبو الخشب :

وفي كتاب "تاريخ الأدب العربي في الأندلس"، للدكتور/ إبراهيم أبو الخشب نقرأ إعجابا بالأدب الأندلسي لا حد له، وإغراقا في المدح، وإسهابًا في الوصف، وتعميما للحكم بأن جميع عصور الأدب في الأندلس تشهد له بالتفرد، والخصوصية، والنهضة العظيمة، حيث يقول: إن الدارس للأدب العربي في الأندلس ليأخذه الإعجاب العاجب لتلك الروعة البيانية، والميزة البلاغية، والطلاوة الأدبية التي انفرد بها عن سواه من ألوان الأدب في سائر العصور التاريخية المختلفة". (۲)

ويرى أن نظرة الأندلسيين للشعر المشرقي لم تقف عند حد التقليد، "وأهل الأندلس إذا كانوا قد جعلوا المشارقة مثلهم الأعلى، أو أساتذتهم الموجهين، أو منارهم الهادي، فإن ذلك لا يعني أن أدبهم كان صورة جامدة، أو مثالاً جافًا، أو تقليدا أعمى، أو غير مستقل كل الاستقلال، أو بعضه، فإن الخيال الرائع الذي نعثر عليه في الأدب الأندلسي، والصور الجميلة التي نصادفها، والتفكير السليم الذي نجده، والألفاظ الحلوة التي نلتقي بها، والأسلوب القوي الذي نقرؤه، والإبداع النادر الذي نحصل عليه، ترينا مقدار ما أسدى إلى الأدب العربي ذلك التراث من أياد لا نذكرها له إلا خلعنا عليه رداء من الثناء الخالد، والمديح الخالص، والإجلال البالغ، والاحترام  الزائد " (3).

---------------------------

(۱) تاریخ آداب العرب، الرافعي: ٢٩٦/٣.

(۲) تاريخ الأدب العربي في الأندلس، د. إبراهيم أبو الخشب، ص 61.


موقفي من الآراء السابقة  :

تعليقا على ما سبق : هكذا نظر الدارسون إلى الشعر الأندلسي، فكانوا بين ناع ينعي عليه جموده وتقليده، وتبعيته للشعر المشرقي، وتجرده من الشخصية المستقلة، المعبرة عن ذاتها، وزمانها، ومكانها، حتى أصبح عندهم غير جدير بالدراسة، وأنه إن نظر إليه كان ذيلاً للشعر في البيئة المشرقية إبان العصر العباسي، وبين معجب يرى فيه ما ليس في غيره من ظواهر بيانية، وروعة بلاغية، وسحر معنى، ودقة تصوير، بل إن الإعجاب دفع إلى الادعاء بأن الشعر الأندلسي نشأ يافعا، وشب شامخا، وظل يناطح الجوزاء طيلة قرونه الثمانية.

رأي المؤلف في ذلك :

والحقيقة أن كلا الفريقين قد أسرف في القول، وجانب الحق، ذلك أن معظم الآراء قد صدرت عن أحكام عامة، ونظرة شاملة، في الوقت الذي كان يجب فيه النظر إلى الشعر الأندلسي على أنه وليد مرّ مراحل نمو طبيعية، شأنه في ذلك شأن الآداب كلها في كل الأمم، فلئن كان الشعر الأندلسي في القرن الثاني (فترة عصر الولاة : ٩٢-١٣٨هـ) قد سار على منهج المشارقة في شكله ومضمونه، فهذا أمر طبعي لا تقليد فيه، ذلك أن البيئة الأندلسية آنذاك لم تكن قد أثمرت ثمارها، فقائلو الشعر – وإن كانوا بالأندلس – ما زالوا مشارقة التفكير والمشاعر، وهم في الوقت نفسه لم تنعكس عليهم حضارة الأندلس، فهل إذا جاء الشعر في تلك الفترة مشابها للشعر المشرقي يقال: إنه تقليد ومحاكاة؟

*على الباحث عن حقيقة الأدب الأندلسي، ومدى تأثره بالأدب المشرقي عليه أن يتتبع هذا الأدب منذ دخول العرب أرض الأندلس إلى خروجهم منها، وعليه رصد ظواهره الفنية ومذاهبه الأدبية في كل عصر من العصور، ومقابلة هذه الظواهر الفنية وتلك المذاهب الأدبية بما في الشعر المشرقي، معللاً لها، كاشفا عن مدى التقليد والتجديد بينهما، ثم بعد ذلك يمكن إصدار الحكم على الشعر الأندلسي، هل هو يسير على غرار المشارقة على الجملة، أم أنه فرضت عليه الظروف أن يقلد ويحاكي لفترة من الزمن، ثم انطلق بعد ذلك، وشب عن الطوق، واستقل شخصيته.

 ولما كانت هذه القضية (التقليد والتجديد) تحتاج إلى دراسة عميقة مستقلة فإن الاكتفاء بتتبع الأدب الأندلسي عبر عصوره وبإيجاز ستكون وسيلتنا في التعرف على حقيقة هذا الأدب.

****

المصادر والمراجع :

----------------------

(3) السابق، ص۷۰.

الموضوع السابق :

الموضوع الحالي :

الموضوع التالي :


تعليقات