-->

النسبة إلى الأندلس ( الأسس والآراء) ، تاريخ الأدب الأندلسي ‏الفرقة الثالثة 2022

النسبة إلى الأندلس ( الأسس والآراء)

النسبة إلى الأندلس ( الأسس والآراء)


* * *

خامسا: النسبة:

النسبة إلى الأندلس ( الأسس )  :

يعد وضع معيار دقيق لأندلسية أحد الأعلام من الأمور الشائكة؛ بسبب وجود صعوبات جمة في سبيل ذلك التحديد، أهمها:

س : تحدث عن تناقض العلماء واختلافهم حول قضية النسبة :

(1) أن العلماء مختلفون اختلافا يصل إلى حد التناقض في هذه القضية، فمنهم من يرى الاعتداد بمكان الميلاد، ومنهم من يعتد بمكان الوفاة، ومنهم من ينظر إلى مكان الاشتهار، ولكل وجهة هو موليها.

(2) أن معايير النسب متباينة، فقد ينسب العلم لأكثر من جهة باعتبارات شتى، إذ قد ينسب إلى قبيلته صراحة، أو إلى قبيلته بالولاء، أو إلى وطنه، أو إلى جده، أو إلى أبيه، أو إلى صاحبه، أو إلى مالكه الذي أعتقه، أو إلى لباسه، أو إلى أمه... إلخ (۱).

(3) أن بعض الأعلام ينسبون إلى مكانين أو أكثر؛ لأن الأول مكان الميلاد أو منبت الأرومة، والثاني مهاجره أو مكان اشتهاره أو مكان وفاته، ولذلك تقـرأ فـي تـراجم بعض الأعلام: البغدادي الأندلسي، أو الإشبيلي الدمشقي، أو المغربي الحضرمي... إلخ.

فالاعتبارات ليست مكانية .

--------------------------

(۱) انظر: المزهر للسيوطي٤٤٤/٢، وراجع: الوافي بالوفيات للصفدي 33/1-35.


(4) أن الأندلس شهدت هجرات واسعة منها وإليها، فكانت طورا جاذبةً وطـورا طاردة، وأصبح من اللازم نسبة كل عالم إلى بلده؛ لأننا لو تركنا الأمر غفلاً؛ لتنازعت الأقطار الأعلام، وادعى كل قطر انتساب الأفذاذ إليه، وهذا ما نراه مع ابن خلدون (ت 808هـ) مثلاً، فأنت "إذا قرأت كتابا أندلسيا؛ وجدته يتحدث عن ابن خلدون ...

علما من أعلام الفكر الأندلسي، وإذا قرأت تاريخ الأدب المصري في عصر المماليك؛ وجدت الحديث عن ابن خلدون قطبـا مـن أقطـاب وادي النيل، وإذا ألممـت بالحركة الفكرية في المغرب؛ شاهدت ابن خلدون قائدا من كبار قادتها في تونس، وذلك يؤكد منزلة هذا العملاق في الفكر العربي، وحرص كل قطر من الأقطار على فخر انتمائه إليها"(1).

ولا شك أن عدم الفصـل فـي هـذا النزاع قـد يوقع الباحث في مأزق الانحياز لأي طرف من أطراف الدعوى. 

النسبة إلى الأندلس ( الآراء) : 

وقد اختلف العلماء في هذه القضية اختلافا يصل إلى درجة التناقض، على النحو الآتي:

(۱) ذهب جمهور المؤرخين إلى نسبة العلم إلى مكان ولادته، فيقال: القرطبي مثلاً ، لمن ولد بها، ونشأ بين أحضانها، وتلازمه تلك النسبة مهما نأت به الديار عنها، يقول ابن عبد الملك المراكشي (ت703هـ): "فإن نسبة  الراوي إلى بلد ولد به ونشأ وقرأ وروى وروي عنه أو فارقه ثم عاد إليه نسبة صادقة وقد اشترك في استعمالها المتقدمون والمتأخرون"(2).

---------------------------

(1) الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير - د. محمد رجب البيومي- ص ١٩٨.


(۲) ذهب ابن بسام الشنتريني (ت٥٤٢هـ) إلى الاعتداد بمكان العيش والاشتهار؛ 

حيث تحدث عن ابن وهبون المرسي (ت 480هـ): "وكورة تدمير أفقه الذي منه طلع، وعارضـه الـذي فيه لمع، وإنما ذكرته في هذا القسم الغربي مع أهل إشبيلية؛ لأنها بيت شرفه المشهور، ومسقط عيشه المشكور، طرأ عليها منتحلاً للطلب، وقد شدا طرفا من الأدب" (3) .

ولعل داعي ابن بسام إلى هذا الاعتبار أن ابن وهبـون جاء إشبيلية طالبا شاديا منتجعا الأدب، وهي التي كونت شخصيته، وشكلت فكره، دون مسقط رأسه الذي فارقه صبيا.

(۳) ذهب أبو محمد علي بن حزم الظاهري (ت456هـ) إلى الاعتداد بالمكان الذي انتقل الإنسان إليه، وبقي فيه حتى الوفاة، وإن قل مكثه فيه؛ إذ فاخر بمحمد بن يوسف الوراق (ت ٣٦٢هـ) وعده أندلسيا على الرغم من نشأته بالقيروان قائلاً: "ومحمد هذا أندلسي الأصل والفرع، آباؤه من وادي الحجارة، ومدفنه بقرطبة،

 وهجرته إليها، وإن كانت نشأته بالقيروان ، ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه هاهنا، إذ مرادنا أن نأتي منه بالمطلب فيما يستأنف إن شاء الله تعالى، وذلك أن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين، دون محاشاة أحد، بل قد تيقنًا إجماعهم على ذلك متفقون إلى أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها، 

ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة – رضي الله عنهم - صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة – رضي الله عنهم – وإنما سكن عليّ الكوفة خمسة أعوام وأشهرا، وقد بقي 58 عاما وأشهرا بمكة والمدينـة- شرفهما الله تعالى -، وكذلك أيضا أكثر أعمار من ذكرنا 

(وذكر أمثلة أخرى من البصريين والشاميين والمصريين والمكيين، ثم قال:) فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا، الذين إجماعهم فرض اتباعه، 

وخلافه محرم اقترافه، ومن هاجر منا إلى غيرنا؛ فلا حظ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به، فكما لا ندعي إسماعيل بـن القاسم (أبا علي القالي) فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا، والعدل أولى ما حرص عليه، والنّصف أفضل ما دعي إليه"(4).

---------------------------

(2) الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة - ابن عبد الملك المراكشي - السفر الأول- 

تح/د. محمد بن شريفة- ط / دار الثقافة – بيروت - ۱۰/۱.

(3) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة– تح/ د. إحسان عباس: ٤٧٤/٢.


وأقول: الاستدلال بالصحابة غير سائغ هنا؛ لأن جل صحابة رسول الله تركوا بلادهم، وانتشروا حاملين مشاعل الدعوة في شتى أصقاع الأرض، وأصبحت البلاد التي استقروا بها، 

وأسسوا دولة الفكر الإسلامي فيها، علما مميزا لهم عن سواهم؛ فنسبتهم إلى تلك البلاد تشريف لها، وتنبيه على أوليتهم في غرس شجرة العلم فيها، وليس هذا مقصدنا، وإنما الغاية هنا الحكم للبلد الذي أثر في العالم، وكون فكره، وشكل شخصيته، وصبغ عقله بصبغته.

--------------------

(4) رسائل ابن حزم – تح/ د. إحسان عباس: ١٧٥/٢، نفح الطيب: 163/3-164،

وانظر: الذيل والتكملة لكتابي الموصول، والصلة: ۱۰/۱-۱۱.


ولعل ابن حزم لجأ إلى هذه النظرية لأمرين: "أولهما: أنه كان يعلم أن الثقافة الأندلسية حتى عصره ومن ضمنها الأدب- كانت نتاج جهود شارك فيها عدد غير قليل من المهاجرين الذين ألفوا في موضوعات أندلسية،

 أو واكبوا أحداث الأندلس، أو أرادوا بما كتبوه خدمة الطلاب الأندلسيين، ولهذا كان استثناء هذه الحركة الثقافية أمرا غير طبيعي، فضلاً أنه يحرم الأندلس جهود أناس عاشوا فيها حتى وافاهم الأجل هنالك.

وثاني الأمرين: أن ابن حزم كان ينظر إلى بعيد، وذلك أنه حين يعد المهاجرين إلى الأندلس- دون ترك لها – أندلسيين؛ فإنه يشمل بذلك جميع الداخلين إليها منذ بداية الفتح، وبذلك يمنح الثقافة الأندلسية والأدب الأندلسي صفة القدم والعراقة، ويجعل للأدب الأندلسي- بخاصة- موروثا أصيلاً يفيء إليه"(1).

وكأني بابن حزم رأى الأندلس في عصره جاذبة للعلماء من شتى أصقاع العالم الإسلامي، ورأى المغادرين لها كابن هانئ قليلاً، فهداه حس المفاخرة بفضائل الأندلس إلى هذه النظرية؛ استكثارا من مفاخر بلاده، ولو عاش الرجل في القرن السابع أو ما بعده، ورأى الأندلس طاردة لا جاذبة، وشاهد فلول العلماء الراحلين عنها؛ لعدل عن هذه النظرية إلى نقيضها. 

وهذا يعني أن التعصب للأندلس كان يقف وراء هذا القول، ولستُ في هذا متجنيا على ابن حزم، فقد رمي ابن الأبار (ت 658هـ) بهذه التهمة لذهابه مذهب ابن حزم، يقول ابن عبد الملك المراكشي (ت 703هـ): وقد اضطرب عمل أبي عبد الله بن الأبار في هذا اضطرابا شديدا، ينافي شهير نبله، ومعروف تيقظه، 

وتحفظه من متعلقات النقد وأسبابه.... فذكر في الأندلسيين جماعة من الناقلة إليها ... تشبعا واستكثارا وإفراطا في التعصب الذي كان الغالب عليه حتى غلا فيه، ويكفيك من مثل ذلك ما ختم به رسم أبي الله بن عيسي بن المناصف - رحمه الله - بعد أن ذكره في الأندلسيين، وذكر من أحواله ما رأى أن يذكره به، 

فقال: مولده بتونس، وقيل: بالمهدية، وهو أصح، ثم قال: وذكره في الغرباء لا يصلح ضنانة بعلمه على العدوة. 

وحسبك ما اشتمل عليه هذا القول من الشهادة على قائله بما لا يليق بأهل الإنصاف من العلماء، 

واستحكام الحسد المذموم، واحتقار طائفة كبيرة من الحلبة العدويين، وفضل الله سبحانه رحمه يخص بها من يشاء، وموهبة ينيلها من يختار، والله ذو الفضل العظيم"(1).

-------------------------------------------

(1) تاريخ الأدب الأندلسي (عصر سيادة قرطبة) - د. إحسان عباس: ص 44.


وهذا يعني أن التعصب قد حاد بهؤلاء الأعلام عن جادة الصواب، فكان هذا التباين الذي رأينا، والذي أدي بدوره إلى اضطراب رؤية المعاصرين في هذه المسألة، وحسبك من ذلك تجاوزهم في نسبة ابن خلدون (ت 808هـ)،

 إذ عدة الأستاذ أحمد أمين (ت 1954م) أندلسيا، قائلاً: وقد عددناه من كتاب الأندلس، وإن عاش أكثر حياته في بلاد المغرب وفي مصر لأنه أندلسي الأصل، فهو من إشبيلية، من أصل عربي يمني، وهو وإن ولد في تونس؛ فقد درس على علماء أندلسيين، وأقام في الأندلس زمنا"(2).

--------------------------

(1) الذيل والتكملة: ۱۰/۱-۱۱، وحديث ابن الأبار عن ابن المناصف في التكملة لكتاب الصلة: ۱۲۰/۲-۱۲۱.

(2) ظهر الإسلام: ٢٢٥/٣.

والحق أن الرجل تونسي؛ إذ ولد بها عام: ٧٣٢ه، وتعلم على يد علمائها، وتولى كتابة السر والإنشاء عند بني مرين، وقد دخل الأندلس مرتين: أولاهما: عام 764هـ حيث بقي فيها لمدة عامين فحسب، ذهب خلالهما رسولاً إلى ملك قشتالة، والثانية: عام 776هـ، وقد عاد في العام نفسه (1).

ومعنى هذا أن جملة ما قضاه في الأندلس ثلاث سنوات على أكثر تقدير، فبأي اعتبار ينسب إلى الأندلس دون المغرب الذي قضى به نحو خمسين عاما، ودون مصر التي مكث بها قرابة عشرين سنة؟!!

 ولا عبرة بكون أصوله من إشبيلية؛ لأن أرومته من اليمن، ولذا يقال له: الحضرمي، فهل يعد يمنيا؟ ودراسته على علماء أندلسيين كانت في تونس التي أقام فيها عدد من علماء الأندلس المهاجرين زمن انهيار قواعد الإسلام الأندلس، فأنى يكون أندلسيا وهو مقيم في وطنه؟ 

والرأي الذي يطمئن إليه الكاتب أنه لا يعد من أهل الأندلس إلا من قضى فيها مرحلة التكوين، فاكتسب النسب إلى ترابها، وتغذى بلبان ثقافتها، واكتسب نمط تفكيرها، وذلك إذا قضى فيها فترة التكوين من الميلاد حتى الخامسة والعشرين من عمره تقريبا؛ لأن ما يكتسبه المرء في هذه الفترة أرسخ وجودا،

 وأخلد عمرا، وأبقى أثرا من كل جديد طارئ بعدها، فالعلم في الصغر كالنقش على الحجر، والعلم في الكبر كالرقم على الماء، ناهيك عن التعلق الوجداني بموطن الميلاد وملاعب الصبا ومسارح الشباب، ورحم الله أبا تمام  (٢٣١هـ) ،


إذ يقول:(2)

نقل فـؤادك حيث شئت من الهـوى 

ما الحب إلا للحبيب الأول


كـم منـزل في الأرض يألفه الفتـى

 وحنينه أبدا لأول منزل 

---------------------

(1) انظر: التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا، ص ٨٤-٢٢٦.


ومن ثم فليس من الأندلس من وفد عليها قادما من بلد آخر نهل من ثقافته وعلّ ، وتشبع عقله ووجدانه بنمط تفكيره، حتى ولو ظلوا في الأندلس إلى أن ماتوا، 

ولذا نجد المترجمين يفردون لهم مكانا عنوانه: (الغرباء الطارئون على الأندلس) مثل: أبي علي القالي (ت 356هـ) وصاعد البغدادي (ت 417هـ)، وابن شرف القيرواني (ت 460هـ) وغيرهم ممن يعدون بالمئات.

----------------------------

(2) ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي: ٢٥٣/٤.


والعكس صحيح، فكل الأندلسيين الذين قضوا بها فترة التكوين، وأشربوا ثقافتها، ثم ارتحلوا عنها؛ يعدون من أهل الأندلس، وإن قضوا بقية أعمارهم خارجها؛ لأن البيئات التي ارتحلوا إليها لا يمكن أن تسلخهم من ثقافتهم الأندلسية، مثل: ابن هانئ الأندلسي (ت ٣٦٢ه)، وأبي الصلت الأندلسي (ت٥٢٩ هـ)،

 وأبي القاسم بن فيره الشاطبي (ت590هـ)، وأبي الخطاب بن دحية (ت633هـ)، وأبي عبد الله القرطبي المفسر (ت 671هـ)، وأبي عبد الله بن مالك الجياني (ت٦٧٢هـ)، وأبي العباس المرسي (ت686هـ)، 

فهؤلاء وغيرهم ممن يعدون بالمئات أندلسيون لخروجهم بفكر نقش في عقولهم كالنقش على الحجر، ومهما أضافت إليه البيئات الأخرى ؛ فإنها لا تمحوه لسريانه في عقولهم سريان الدم في العرق .



قد يعجبك هذا أيضا :